وهكذا تحققت عدالة السماء

د. علي أبو شنة الغرياني

أخيرا وبعد مرور أكثر من أربعة عقود، تحققت عدالة السماء،
العدالة المطلقة التي لا تعرف تمييزا ولا سهوا ولا جورا، وإن كانت أحيانا
بطيئة التطبيق، لكنها محققة الوقوع، وهكذا لقى القذافي مصرعه، وسقط قتيلا،
بعد أن عاث في البلاد تقتيلا وتشريدا وإرهابا، وخاض حربا لا هوادة فيها ضد
كل الليبين، مستعملا مختلف الأسلحة العسكرية، بما فيها الصواريخ والراجمات
والألغام، ولم تسلم منه أسرة ليبية واحدة، ولم تنجو منه قرية ولا مدينة،
ولهذا كان النبأ بمقتله، محل قبول ورضاء من جانب الشعب الليبي، وهذا ما
عكسته الاحتفالات والمهرجانات والتجمعات التلقائية والعفوية التي عمت مختلف
أنحاء البلاد، حيث طغت مشاعر الفرح والغبطة والسرور، جموع الليبيين بمجرد
سماعهم بالنبأ الذي كانوا ينتظرونه، بل ويعملون من أجله أيضا، فقد كان ينظر
إليه دائما باعتباره العدو الحقيقي الذي حول حياتهم إلى جحيم لا يطاق،
ونشر فيهم الإحساس بالقلق والخوف، وأشاع بينهم مناخا من الرعب، بفعل
الجرائم البشعة التي ارتكبها بحق أبنائهم وأخوانهم وذويهم، وهي جرائم لا
تعد ولا تحصى.

وكان العقاب عليها حتميا، والجزاء من جنس الفعل، وهذه هي
إرادة الله، وكم من الليبيين من كان يتمنى أن يعيش ولو للحظة واحدة إلى
حلول هذا اليوم، ويرى بنفسه هذه النهاية المحتومة للطاغية المعتوه، كي
يتأكد بأن عدالة السماء حقيقة لا شك فيها.

وإذا كان القذافي قد لقى حتفه يوم العشرين من أكتوبر،لكنه في
حقيقة الأمر، انتهى وتلاشى واقعيا قبل هذا التاريخ، فقد سقط نهائيا يوم
السابع عشر من فبراير، وتأكد هذا السقوط بصورة قطعية يوم الحادي والعشرين
من أغسطس، يوم تحرير طرابلس، لكنه ظل متكبرا متنكرا رافضا للواقع الذي آل
أمره إليه !! حتى يوم العشرين من أكتوبر، وعندئذ تقرر الإعلان عن نهايته
بصورة رسمية، وكانت نهايته المحتومة مماثلة تماما لنهاية كل الطغاة
المتجبرين المتألهين، القتل ولا شيء غيره، وهكذا تقضي عدالة السماء، بل أن
نهاية هؤلاء الطغاة لو تمت بغير تلك الصورة لتسلل الشك في نفوسنا في عدالة
الله.

وربما كان يوم مقتل القذافي، أسعد أيام الليبيين منذ أكثر من
أربعين عاما، فهو تعبير حي عن عودة الروح للكيان الليبي في مجموعه، وهذه
الروح التي غيبها القذافي وأهانها لا يمكن أن تقبل أو ترضى بغير مقتله،
ولهذا كان وجود القذافي حيا، أمرا يتعارض ويتضاد مع عودة الروح للكيان
الليبي، فهما نقيضان لا يجتمعان ولا يلتقيان، ومن ثم يجب أن تكون الغلبة
والبقاء لأحدهما.

ولعل أكثر الليبين سعادة،هم أولئك الذين نكل القذافي بأبنائهم
وإخوانهم وآبائهم وأصدقائهم بالقتل والاعتقال والتعذيب والتشريد والاضطهاد
والاغتصاب، لأنهم يرون في ذلك جزاء وفاقا، يرضيهم ويعوضهم عما عانوه من
ألم وحزن.

وإذا كان الليبيون قد عرفوا حكاما من قبل، سواء كانوا ليبيين
أم أجانب، لكنهم وعلى مر التاريخ لم يظهروا فرحا ولا سرورا لمقتل أحد
هؤلاء، وهذا يعني أن وضعية القذافي هي وضعية شاذة في التاريخ الليبي، بسبب
جنونه وعتهه وعدوانيته السافرة، فقد تجاوز حدود المقبول في طغيانه وبطشه
واستبداده، بل هناك ممن حكموا ليبيا من المحتلين الأجانب، كانوا موضع
احترام من الشعب الليبي، ونذكر كيف أن المدن والقرى الليبية تحولت إلى ديار
عزاء ومواكب حزن حين علموا بمقتل الماريشال إتيليو بالبو حاكم ليبيا زمن
الاحتلال الإيطالي في مرحلته الأخيرة الممتدة من سنة 1931 إلى 1941، وتم
ذلك بصورة تلقائية تعكس إنسانية المواطن الليبي، وقد رثاه كبار الشعراء
والأدباء، ولكن الفرق شاسع وكبير بين بالبو والقذافي، فلم يسجل الليبيون
لبالبو أنه ارتكب مجزرة بشرية في حجم مذبحة أبو سليم مثلا، كما فعل القذافي
بهم، كما لم يعرف الليبيون الاضطاد والطغيان والبطش زمن بالبو بالدرجة
التي عرفوها زمن القذافي، ولم يقم بالبو بضرب مصراتة والزنتان والزاوية
وبنغازي وإجدابيا ونالوت ويفرن وزوارة وغيرهما بالصواريخ ولا بالراجمات ولا
بالمدافع ولا بالقنابل أو الألغام، وهذا ما فعله القذافي نهارا جهارا ودون
خجل!!

وبالبو طيلة حكمه كان يتودد لليبيين ويتقرب إليهم، وكان يبدي
الاحترام والتقدير لهم ولاتجاهاتهم ولأشخاصهم، ولم يحتقر أحدا منهم، لا سرا
ولا علانية، ولم يصف الليبيين ذات يوم أنهم جرذانا أو حفنة من المهلوسين
أو.. أو الخ… وهذا ما كان القذافي يصفهم به علنا وعبر قنواته الفضائية
وأمام العالمين!!!

ومن هنا كان الفرق كبيرا بينهما، والسبب كان الفرق كبيرا
بينهما أيضا في المواقف التي أتخذها الشعب الليي،عندما علم بمقتل كل منهما،
فقد أظهر حزنا وألما بسماع نبأ مقتل بالبو، في حين أظهر سعادة وفرحا لمقتل
القذافي، والسبب في ذلك أن القذافي كان أسوأ حاكم عرفه الليبيون في
تاريخهم.

وإذا كانت نهاية القذافي، كفرد من البشر، قد انتهت وإلى
الأبد، بمقتله، فإن هناك الكثير ممن كانوا من عملائه وأنصاره وأتباعه
وقواديه وداعريه، مازالوا أحياء يترقبون ما تؤول إليه الأمور، وهؤلاء
الفاسدون كانوا أداته التي يبطش بها، وكانوا يده التي تمتد بالقتل والتعذيب
والاضطهاد إلى الليبيين وبكل القسوة والشدة والعنف، ولو لم يجد القذافي
القتيل مثل هؤلاء المجرمين، ما وقعت في ليبيا كل تلك المآسي والمظالم
والكوارث، ولهذا فإن نهاية القذافي يجب ألا ينظر إليها باعتبارها خاتمة
المطاف في ثورة فبراير المجيدة، بل هي حلقة في سلسلة طويلة، تمتد لتشمل كل
من ارتكب جرما أو ظلما بحق الليبيين، ومهما كانت هوياتهم أو صفاتهم أو
علاقاتهم، بل ومهما تغيرت جلودهم وأفكارهم وقناعاتهم،بل ومهما أظهروا من
ندم وأسف عما فعلوه ومارسوه، فالعدالة فوق كل اعتبار، والعدالة هنا هي
عدالة الوطن، لأن كل من ارتكب طغيانا وبطشا بحق أي مواطن ليبي، إنما فعل
ذلك ضد الوطن وكرامته، ولهذا كانت الجرائم المرتكبة ضد المناضليين الليبيين
طيلة حقبة القذافي المقتول، هي جرائم ضد الوطن ومن ثم فهي لا تسقط لا
بالتنازل ولا بالصفح ولا بالتصالح، فلا غفران في كل ما يمس الكرامة الوطنية
للأمة الليبية، وهذا واجب ملقى على عاتق ثوار السابع عشر من فبراير، وهو
واجب يسمو على كل الواجبات الأخرى، وتلك أيضا هي وصية شهداء ليبيا الأبرار
الذين روت دمائهم ثرى الوطن خلال أكثر من أربعة عقود، وليس في الأمر ظلما
لأحد ولا تعسفا، بل هو ضرورة تقتضيها المرحلة المقبلة، باعتبارها مدخلا
ضروريا لعملية البدء في البناء السياسي والاجتماعي والتشريعي لليبيا
الجديدة.

د. علي أبو شنة الغرياني

المصدر:[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]

شكرااااااااااااااااااااااااااااااا

مشكووووووووووره للمرور